يظل
قائل القول الحَسَن المفيد ناقصا إذا لم تسعف الأعمال دعواه العريضة، وهى
صورة من الصور المرجوحة رصدها المربون فأنكروها، وبينوا كيف أن قوماً:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا * * * ولكنّ حُسْنَ القول خالفه الفعلُ
ورصدوا حالة معاكسة طرأت كان الأقدمون ضدها، يوم أظهروا الدأبَ الصامت .. ..
وكان البرُّ فعلاً دون قولٍ ** ** فصار البر نُطقاً بالكلام
وسادَ عُرف التفاصُح، فاسترخت أيادي التصافح، حتى:
( نَطقنا بالعربية فما نكاد نُلحِن، ولحنّا بالعمل فما نكاد نُعْرِب ) .. .. كما عبْر إبراهيم بن أدهم.
أو أنك (قد قنعتَ بفصاحة اللسان مع عُجمة الجنان، و غدا لا ينفعك. الفصاحة للقلب لا للسان)،في تعبير عبد القادر الكيلاني
وسبب ذلك: خلل في ركن الإخلاص والعياذ بالله، وقد بينه الجُنيد البغدادي في معادلة واضحة، أنه:
(يخلص إلى القلوب من بره: على حسب ما تُخلص القلوبُ عند ذكره) ثم قال: (فانظر ماذا خالط قلبك؟)
فالعمل
الصالح: بر، و إنما يأذن به الإخلاص، فإن لم يوفَق القلبُ إلى مزيد بر:
فالواجب ان تفحص كفحص الأطباء عن أخلاط ومكدرات وشوائب تعيق.
بل لا
يحتاج صاحب الإخلاص الى تذكير الآخرين بما عنده، وما هو بحاجة الى دعاية
او دفاع عن النفس، إنما هو مثل زهرة ينتشر ريحُها ويجبر المار بجوارها على
الالتفات والاستمتاع بشذاها الزكي حتى لو لم يرها أول مرة .. (فمن أصلح
سريرته: فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فاللهَ اللهَ في السرائر،
فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر ) (صيد الخاطر لابن الجوزي /207)
وكلما
وعى الدعاة هذه الحقائق أكثر: تقلصت احتمالات الفتن في دارهم، واضمحل ما
يلازمها من تكبر وحسد وجدال، وكان عمرو بن قيس الملائي يرى رؤوس التواضع
ثلاثة، أحدها: (ان لا تحب الرياء والسمعهّ والمدحة في عمل الله)، وكانت
وصية يحيي بن أبي كثير أنْ: (تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل)
فخذ
برأس الأمر أيها الأخ الداعية، ولا تستغرب كثرة التوصية بهذه المعاني التي
مرت عليك عند الابتداء، فإنها تلزمك عند التوسط أيضاً، وعند الانتهاء، فإنّ
(أقربَ الناس من الرياء: آمنهم له) كما يقول التابعي عَبدة بن أبى لبابه..
___________