بسم الله الرحمن الرحيم
الحبّ والعشق
جدال العقل والعشق
كان في قديم
الزمان ، في الأدب العالمي ، لا سيّما في الأدب الفارسي والثقافة الفارسية
، وكذلك الأدب الأوربي ، حكاية الجدال العنيف بين العقل والعشق ، ولمّا
كان مركز العشق هو القلب ، فالجدال يرجع في الواقع بين العقل والقلب ،
والإنسان وإن كان ظاهره يتألّم بلسعة البقّة ، وتقتله الشهقة ، إلاّ أ نّه
في باطنه ووجوده يحيط بالعالم الميتافيزيقي وما وراءه من الروح الإلهيّة ،
وإنّ فيه انطواء العالم الأكبر :
أتزعم أ نّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ).
وإنّه ورد في
الحديث القدسي عن الله سبحانه أنّ سمائي وأرضي لا تسعني ويسعني قلب عبدي
المؤمن ، فيكون قلبه حينئذ عرش الرحمن وحرم الله جلّ جلاله.
والعقل لغةً :
من عقال البعير لضبط ركبتيه عند بركه ، وليكون تحت تصرّف صاحبه ، وللعقل
معنى اسمي وآخر مصدري . والثاني بمعنى الإدراك للأشياء ، والأوّل حقيقة
يميّز بها الخير من الشرّ ، والحقّ من الباطل.
والعقل
اصطلاحاً : بمعنى ضبط الأهواء ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل .
ويأتي العقل بمعنى الفهم أيضاً ، كما له تعاريف اُخرى في علوم شتّى ، فهو
جوهر مجرّد ذاتاً وفعلا ، أو وجود منبسط ، فإذا كان العقل كانت الأشياء ،
أو القوّة الدرّاكة للكلّيات ، أو القوّة الدرّاكة للخير والشرّ ، أو ملكة
تدعو إلى الخير ، أو الملكة لتنظيم اُمور المعاش ، أو القوّة المدركة
المطلقة التي تنقسم إلى العقل النظري والعقل العملي ، والأوّل ينقسم إلى
العقل الهيولائي وبالملكة وبالعقل وبالمستفاد ، والثاني إلى التخلية
والتحلية والتجلية والفناء . أو العقل هو الروح القدسي الموجود بالفعل ،
وهو العقل الفعّال الذي يخرج ما بالقوّة إلى ما بالفعل ، وهو العقل العاشر
عند الفلاسفة المشّائين.
قال الإمام الصادق في تعريف العقل :
« هو ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان ».
وهذا من
التعريف باللازم ، وأوّل ما خلق الله في عوالم الشرف هو العقل ، وذلك من
نور مخزون مكنون ، في سابق علمه ، الذي لم يطلع عليه ، لا نبيّ مرسل ، ولا
ملك مقرّب.
وأمّا القلب
فهو معروف عند الجميع ، وهو مركز الإدراكات والأحاسيس والعواطف ، وإنّه
وراء القلب الصنوبري الذي في القفص الصدري لتصفية الدم ، وما جاء في
الآيات والروايات من ذكر القلب والقلوب وأوصافها وأقسامها إلى ممدوح
ومذموم ، إنّما هو المعنى الروحاني والمعنوي للقلب ، وكذلك الصدر والفؤاد
، وعند العامّة يطلق القلب على النفس أيضاً عندما يقال : قلبي يشتهي هذا ،
أي نفسه تشتهيه.
ويرجع تاريخ الجدال الموهوم بين العقل والعشق إلى القدماء من الفلاسفة ، فإنّ أفلاطون تلميذ سقراط يقول بالمثل
وبالإشراق ، وتلميذه أرسطوطاليس يذهب إلى البرهان العقلي ويفنّد المثل ،
وقد اشتهرت فلسفته بالمشائية ، فالنزاع بين الإشراقيين والمشّائيين ، ومن
ثمّ بين أصالة الوجود وأصالة الماهيّة ، وبين العرفاء القائلين بالشهود
والذوق وصيقلة القلب حتّى يكون كالمرآة ، ومن ثمّ تطبع فيها حقائق الأشياء
إشراقاً ، وبين الفلاسفة القائلين بالأدلّة العقليّة والصغرى والكبرى
والنتيجة ، وبالحجّة والبرهان العقلي ، ثمّ موضوع الفلسفة هو : ( الموجود
بما هو موجود أو الموجود المطلق ) وموضوع العرفان ( وجود الحقّ سبحانه بين
الارتباطين ).
والواقع لا
اختلاف بين الموضوعين في المآل والنتيجة ، وهذا ما نعتقده ونقول به ، فإنّ
العقل نور من الله جلّ جلاله ، وبه يعبد ويكتسب جنانه ، كما أنّ القرآن
نور ، وكلام الأئمة الأطهار نور ، والرسول الأعظم نور وسراج منير ، وخلق
الله آدم فتجلّى فيه مصباح ، وخلقت الملائكة من النور ، والله سبحانه نور
السماوات والأرض ، ومن نوره خلق النور.
والعشق نور
ونار ، فنورانية العشق مع نورانية العقل من باب ( نورٌ على نور ) يهدي
الله لنوره من يشاء ، فمن أصابه من ذلك النور كان من المهتدين.
ولا يكلّف الله
نفساً إلاّ وسعها ، فكان من وسع الإنسان أن يحمل النورين : نور العقل ونور
القلب ، ومن الأوّل الفكر ، ومن الثاني العشق والذكر ، و ( حملها الإنسان
) إنّه حمل تلك الأمانة الإلهيّة ، إلاّ أنّ أكثر الناس غير شاكرين ،
فقصّروا في حملها ، وكان الإنسان ظلوماً جهولا.
وفي الدعاء :
« اللهمّ اجعل
في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي لساني نوراً ، وعن
يميني نوراً ، وعن يساري نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ،
وأمامي نوراً ، وخلفي نوراً ، واجعلني نوراً ، وأعظم لي نوراً ».
وحينئذ يكون
الإنسان نورانياً بنور الله سبحانه ، فإنّه قد طلب في دعائه هذا النور من
النور المطلق ومطلق النور ، وبهذا النور يكون عاقلا وعاشقاً ، فلا جدال
حينئذ بين عقله وقلبه ، بل كلّ إلى ذاك الجمال والنور المطلق يسير ويُشير.
فالعقل والعشق بمنزلة الجناحين لمن أراد أن يحلّق في سماء الفضائل ، ويصل إلى الجمال المطلق ومطلق الجمال.
فمعرفة الحقّ بالاستدلال والبرهان ، كما أ نّه بالذوق والإلهام والكشف والشهود.
والطرق إلى
الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق ، إلاّ أنّ الصراط المستقيم إنّما هو صراط
واحد ، فمن التكثّر إلى الوحدة ، ومن الجلال إلى الجمال ، ومن الخلق إلى
الحقّ جلّ جلاله.
ونعتقد بحقيقة
هذا العالم التكويني والذي نعيش فيه ، كما نعتقد بما وراء هذا العالم
وكلاهما عندنا من الحقيقة ، وليس كما عند أفلاطون من القول بالمثل بأنّ
هذا العالم ظاهر لعالم آخر واقعي وكلّي قائم بنفسه ، بل كلا العالَمين من
الواقع ، والعقل يدرك ما في هذا العالم ، كما أنّ القلب يدرك ما في ذلك
العالم ، وكلاهما من جنود الله سبحانه ، ومن العوامل الموصلة إليه عزّ
وجلّ.
إلاّ أ نّه جلّ
جلاله لا يكتنفه العقول ، ولكن يسعه قلب عبده المؤمن ، وبهذا ربما يتوهّم
من لم يقف على الحقيقة ، أنّ بينهما جدال وصراع ، وأحدهما ينفي الآخر ،
ويُسفّه طريقه ، فترى النزاع قائماً بين الفلاسفة والعرفاء ، وكلّ يدّعي
الوصل بليلى ، والحال في الواقع كلّ إلى ذاك الجمال يشير.
نعم العشق يدلّ
على الحياة الطيّبة أكثر ممّا يدلّ عليه العقل ، ويعطي للحياة جمالا
خاصّاً ، وروحانيّة فائقة ، فإنّ القلب أوسع ظرفاً من العقل ، كما أنّ
حكومة العشق أوسع دائرة من حكم العقل.
ولا يخفى أنّ
علماء النفس لا سيّما المعاصرين منهم يبحثون أيضاً عن العشق ، إلاّ أ نّ
محور دراساتهم حول العشق بين الرجل والمرأة ، أي العشق الجنسي ، فالكلّ
حينئذ يحمل جوهرية العشق ، إلاّ أ نّه ربما يخطئ في المصاديق كما هو عند
أكثر الناس ، فيعشق ما لا يستحقّ العشق ، والعقل هنا يظهر دوره وحكومته ،
فإنّه يدلّ على العشق الحقيقي وكيفية ذلك . فمن الناس من يعشق والده أو
اُمّه ، أو يعشق الفلسفة أو الفنّ ، أو يكون عاشقاً لله سبحانه.
وفرويد العالم
النفسي الغربي يذهب إلى أنّ العشق هو عبارة عن الغريزة الجنسية ، ولكن هذا
إنّما هو مظهر العشق الحيواني ، فيلزمه أن يُحطّ من قيمة الإنسان ،
ويُنزّله إلى حضيض الحيوانية ، بعد أن كان في مقام الإنسانية ، وإنّه
بإمكانه أن يصعد إلى قمّة الكمال والجمال . ويكون في عداد الملائكة ، بل
يتجاوزهم إلى قاب قوسين أو أدنى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والناس كما في
عقولهم وإدراكاتهم العقلائية يتفاوتون ، وليس الكلّ على نمط واحد ، كذلك
في عشقهم ، فإنّهم يختلفون في الشدّة والضعف ، كما يختلفون في متعلّقات
العشق.
ثمّ العشق الحقيقي من أوصافه أنّ له قوّة خلاّقة ، توجب ترقّي الإنسان وتصعيده إلى قمّة السعادة وشموخ الكمال وصباحة الجمال.
ولأفلاطون
الحكيم رسالة في العشق باسم ( مائدة أفلاطون ) يذهب إلى أنّ الحب والعشق
في البداية ليس هو الميل نحو الجمال ، بل الحبّ في الإنسان هو الميل نحو
التوالد والتناسل في محلّ جميل ، وذهب إلى هذه العقيدة من المتأخرين
الكاتب الألماني ( شوپنهاور ) أيضاً ، ثمّ أفلاطون ( على لسان سقراط )
يعتقد أنّ نتيجة المحبّة في التوالد هو حبّ البقاء والخلود ، ثمّ يرى من
قوى عنده الجانب العقلائي فإنّه يفكّر بخلوده من خلال فنونه وعلومه
وإبداعاته الفكرية ، ثمّ يعتقد بالعشق المجازي وأ نّه قنطرة للعشق الحقيقي
عندما يدرك الإنسان الجمال المطلق ، وأ نّه هو الذي يستحقّ العبادة
والتقرّب إليه لا غير.
وقد تعرّضنا من
قبل إلى العشق المجازي ومذمّته في الإسلام، كما ورد عن الإمام الصادق
(عليه السلام) عندما سئل عن العشق ، فقال (عليه السلام) : « قلوب خلت عن
ذكر الله فأذاقها الله حبّ غيره » . فلا نعيد البحث طلباً للاختصار.
عودٌ على بدء :
ثمّ العقل
البشري وإن كان المائز بينه وبين العجماوات ، وبه تشرّف على المخلوقات ،
إلاّ أ نّه غير قادر على درك الله سبحانه : ( لا تدركه الأبصار ولايكتنفه
العقول ، وهو يدرك الأبصار ويكتنف العقول ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ
بما شاء ، وقد أحاط بكلّ شيء علماً ).
وكلّ ما تصوّره
الإنسان في معرفة ربّه فإنّما هو مخلوق له ، وليس بخالقه . والعقل يدرك
الماهيات في مثالها وصورها ، لا في وجودها الحقيقي الخارجي.
والعقل نور وبه
يستضاء في معرفة الأشياء ، فيعلم بها ، والقلب نور يرى به الأشياء ،
فالعقل علم والقلب رؤية ، ومركز الحبّ والعشق هو القلب.
وبالعشق يكون
الشرّ خيراً ، والكريه جميلا ، والمرّ حلواً ، فالعشق موهبة إلهية يعطيها
الله من أحبّه ، وكان أهلا للعشق . وربما لا يمكن تعريف العشق ووصفه ، فهو
أعظم من الكلمات والألفاظ ، فكلّ ما يقال في حدّه ورسمه ، فإنّما هو من
باب شرح الاسم ، لا بيان ماهيّته وذاتياته ، فيتحيّر العقل عن إدراكه
ويعجز القلب عن دركه وفهمه ، فكلّ ما يقال في تعريف العشق إنّما هو بيان
حالاته وأوصافه ، وبيان أحوال العاشق والمعشوق ، وربما يصل العشق بأهله
إلى أن يقال باتّحاد العاشق والمعشوق والعشق.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حَلَلنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا
وقال آخر :
روحه روحي وروحي روحه *** من رأى روحين عاشا في بشر
فما هو العشق ؟ وكيف يفعل بأهله حتّى يصل إلى مقام الفناء ؟ ! ويتجاوز الاثنينية والتكثّر إلى الوحدة والتوحّد.
ومرّ علينا أنّ
لفظ العشق لم يستعمل في القرآن الكريم ، إلاّ أنّ هناك ألفاظ تدلّ على
معنى العشق ومراتبه ، كالحبّ والودّ والتبتّل ، وفي اللغة العربية كلمات
ترادف العشق في المفهوم والمعنى ، كالغرام والصبابة والوله والودّ والمقه
والخلّة والكلف واللوعة والشغف والجوى واللعج والتدلية والهيم والتبتّل ،
ومنها ما هي بمنزلة المراحل والمراتب ، كما مرّ.
وللحبّ علامات ودلالات ، حتّى لا يختلط الحقّ بالباطل.
لا تُخدعنّ فللمحبّ دلائل *** ولديه من تُحف الحبيب وسائلُ
منها تنعّمه بمرّ بلائه *** وسروره في كلّ ما هو فاعلُ
فالمنع منه عطيّةٌ مبذولةٌ *** والفقرُ إكرامٌ ولطفٌ عاجلُ
ومن الدلائل أن يرى من عزمه *** طوعُ الحبيبِ وإن ألحّ العاذلُ
ومن الدلائل أن يُرى متبسّماً *** والقلب فيه من الحبيب بلابلُ
ومن الدلائل أن تراه مشعراً *** في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه *** جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه باكياً *** أن قد رآه على قبيح فاعل
ومن الدلائل أن تراه راضياً *** بمليكه في كلّ حكم نازل
ومن الدلائل زهده فيما ترى *** من دار زلّ والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه مسلّماً *** كلّ الاُمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً *** نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل
وكمال الإنسان
بالعشق ، والعشق الحقيقي هو عشق الله سبحانه ، وهذا ما يسمّى بعشق العرفاء
والعشق العرفاني ، وهو الذي ينتهي بالعاشق إلى رؤية جمال المعشوق ، فلا
يرى شيئاً إلاّ ويرى الله قبله ومعه وبعده ، فليس في الدير ديّار إلاّ هو
جلّ جلاله ، وهذا العشق الإلهي يرى في كلّ الموجودات ، فهو في حركتها
الجوهرية عاشقة لله سبحانه.
وفي الصحيفة السجّادية :
« ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترعهم على مشيته اختراعاً ، ثمّ سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم سبيل محبّته ».
والعاشق ذاكر
لمعشوقه ، فلا يغفل عنه ، والذاكر له درجات : أوّلها الميل الباطني نحو
الذكر ، فيذكر بلسانه دون قلبه ، ثمّ يشتدّ الميل فيصل إلى مقام الإرادة
القلبية فيذكر بلسانه وقلبه بتكلّف حضور القلب ، ثمّ يشتدّ الحبّ فيستولي
الذكر على قلبه ، وهو مقام ذكر المحبّ ، ثمّ في نهاية الذكر يصل إلى مقام
العشق فيستولي المعشوق على القلب ، فيهيم بحبّه ويتبتّل بذكره.
كما نشاهد هذه
الحالات في عشّاق الله جلّ جلاله ، وعاشقي الحسين(عليه السلام) ، وما
إقامة الشعائر الحسينية بكلّ مظاهرها ، من البكاء واللطم وسفك الدم ومشي
ألف كيلومتر على الأقدام في الصحاري والبراري ، إلاّ آيات الحبّ والعشق
الحسيني الذي هو من عشق الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أنّ ما يفعله العاشق ، لا يدركه العاقل.
بقلم "همس الروح"
خاص منتدى "ناجح زووووووووووم"
الحبّ والعشق
الرغبة والحبّ ، هو الميل القلبي والباطني نحو المحبوب والمرغوب ، ويقابلهما البغض والكراهة.
والحبّ في
الإنسان تابع للقوّة الدرّاكة فيه ، وإدراكه باعتبار حواسّه الظاهرية
والباطنية وقوّته العاقلة ، فيكون محبوبه حينئذ باعتبار ما يتلاءم مع نفسه
، وأ نّه تارةً باعتبار جسده ، فيتولّد منه الحبّ الحسّي والجسدي ، كحبّ
النساء في إشباع الغريزة الجنسية ، واُخرى باعتبار ملاءمته للروح ،
فيتولّد منه الحبّ الروحي كحبّ العلم والفن.
فمدركات
الإنسان الملائمة له تكون في الواقع هي أنواع محبوبيّته ، وإن أفرط في
الحبّ وازداد حبّاً ، فإنّه يصل إلى درجة العشق ، فتكون المحبوبات
معشوقاته ، وأقوى المدركات هي مدركات العقل ، فألذّ اللذائذ هي الإدراكات
العقلية عند أهله ، وكلّما ازداد العقل وذلك بالعلم ولقاح المعرفة ، ازداد
الحبّ ، حتّى يصل إلى درجة العشق ، وذلك عندما يدرك الإنسان جمال الشيء
وحقيقته.
والجمال إمّا أن يكون باطنياً أو يكون ظاهرياً ، فينقسم حينئذ إلى جمال ظاهري ، وجمال باطني.
فمن الجمال الحسّي والظاهري الطيب والنساء ، ومن الجمال الباطني والروحي الصلاة.
وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف :
اُحبّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرّة عيني الصلاة.
وهذا يعني ما
كان مقدّمة لقرّة العين وهي الصلاة ، وهي الجمال الباطني ، فإنّه يكون من
الحبّ الممدوح ، فينقسم الحبّ باعتبار متعلّقاته إلى الحبّ الممدوح والحبّ
المذموم ، كما ينقسم باعتبار مبادئه إلى أقسام ، كحبّ النفس وحبّ الغير ،
وحبّ الإحسان والخير ، ثمّ الحبّ كلّي تشكيكي قابل للشدّة والضعف ،
والزيادة والنقصان ، فله مراتب طولية وعرضيّة.
ومن أجمل مصاديق الحبّ والعشق : هو حبّ الله ، وحبّ رسوله وأنبيائه وأوليائه ، وحبّ العقائد السليمة والصحيحة ، والأخلاق الممدوحة.
ومن أقسام
الحبّ ما يتمّ فيه المشاركة ، كحبّ الصبي للصبي ، والتاجر للتاجر ،
باعتبار المشاركة في الوصف الظاهري من الصباوة والتجارة وما شابه ذلك ،
وكلّما كان السبب أقوى كان الحبّ أشدّ وأقوى ، حتّى يصل إلى درجة العشق ،
كما ذكرنا ذلك تكراراً لزيادة التقرير.
وللإنسان غرائز
عديدة ، من أهمّها ( غريزة الحبّ ) ، وكلّ موجود في حركته الجوهرية ـ كما
عند صدر المتألهين ـ فيه قوّة الحبّ ، وإنّه عاشق لكماله المودوع في جبلته
ووجوده ، فكلّ شيء يَسبحُ ويُسَبِّح بحمد ربّه ، ويتحرّك نحو كماله بدرك
جمال المحبوب والمعشوق ، وكمال المحبوب والمعشوق هو الله سبحانه.
ثمّ يتولّد من الحبّ الشوق ، ومن الشوق الوصال ، ومنه الاُنس ، ثمّ الفناء في المحبوب والمعشوق ، وهو كمال الحبّ والعشق.
وقيل : الغريزة
الجنسية بين الزوجين هي العشق الحيواني ، وهي الشهوة الجنسية التي في
الحيوانات أيضاً ، ولكن في منطق القرآن الكريم إنّما العشق بين الزوجين
عبارة عن المودّة والرحمة الإلهيّة :
( وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ).
وهو العشق الإنساني.
وأساس العشق هو
حبّ الكمال ، وكلّ ممكن فيه الوجود ، فباعتبار وجوده ، يكون محبّاً
وعاشقاً ليصل إلى كماله . وهو إمّا أن يكون طبيعياً ، كعشق الحجر الساقط
ليصل إلى مكانه الطبيعي ، أو اختيارياً كعشق الإنسان لغيره.
مراتب الحبّ :
ثمّ للحبّ مراتب :
أوّلها : الهوى ، وهو الميل الباطني نحو المحبوب.
ثانيها : العلاقة ، وهو الحبّ الملازم للقلب ولا ينفكّ عنه.
ثالثها : الكلَف ، وهو شدّة الحبّ.
رابعها : العشق ، ما يزيد على الحبّ.
خامسها : الشعف ( بعين مهملة ) ، وهو إحراق القلب بزيادة الحبّ.
سادسها : الشغف ( بغين معجمة ) ، يصل الحبّ إلى غلاف القلب.
سابعها : الجوى ، وهو الحبّ الباطني.
ثامنها : التيم ، يطلب المعشوق الحقيقي : « واجعل قلبي بحبّك متيّماً ».
تاسعها : التَبْل ( بفتح التاء وسكون الباء ) ، من شدّة الحبّ يتغلّب عليه الوجع والمرض.
عاشرها : التدلية ( بفتح التاء وسكون الدال ) ، ينتهي إلى زوال العقل.
الحادي عشر : الهيوم ( بضمّ الهاء والياء ) ، وهو الفناء في المعشوق ، فلايرى إلاّ المعشوق ، كهيام قيس في حبّ ليلى.
والحبّ في
الإنسان تابع للقوّة الدرّاكة فيه ، وإدراكه باعتبار حواسّه الظاهرية
والباطنية وقوّته العاقلة ، فيكون محبوبه حينئذ باعتبار ما يتلاءم مع نفسه
، وأ نّه تارةً باعتبار جسده ، فيتولّد منه الحبّ الحسّي والجسدي ، كحبّ
النساء في إشباع الغريزة الجنسية ، واُخرى باعتبار ملاءمته للروح ،
فيتولّد منه الحبّ الروحي كحبّ العلم والفن.
فمدركات
الإنسان الملائمة له تكون في الواقع هي أنواع محبوبيّته ، وإن أفرط في
الحبّ وازداد حبّاً ، فإنّه يصل إلى درجة العشق ، فتكون المحبوبات
معشوقاته ، وأقوى المدركات هي مدركات العقل ، فألذّ اللذائذ هي الإدراكات
العقلية عند أهله ، وكلّما ازداد العقل وذلك بالعلم ولقاح المعرفة ، ازداد
الحبّ ، حتّى يصل إلى درجة العشق ، وذلك عندما يدرك الإنسان جمال الشيء
وحقيقته.
والجمال إمّا أن يكون باطنياً أو يكون ظاهرياً ، فينقسم حينئذ إلى جمال ظاهري ، وجمال باطني.
فمن الجمال الحسّي والظاهري الطيب والنساء ، ومن الجمال الباطني والروحي الصلاة.
وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف :
اُحبّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرّة عيني الصلاة.
وهذا يعني ما
كان مقدّمة لقرّة العين وهي الصلاة ، وهي الجمال الباطني ، فإنّه يكون من
الحبّ الممدوح ، فينقسم الحبّ باعتبار متعلّقاته إلى الحبّ الممدوح والحبّ
المذموم ، كما ينقسم باعتبار مبادئه إلى أقسام ، كحبّ النفس وحبّ الغير ،
وحبّ الإحسان والخير ، ثمّ الحبّ كلّي تشكيكي قابل للشدّة والضعف ،
والزيادة والنقصان ، فله مراتب طولية وعرضيّة.
ومن أجمل مصاديق الحبّ والعشق : هو حبّ الله ، وحبّ رسوله وأنبيائه وأوليائه ، وحبّ العقائد السليمة والصحيحة ، والأخلاق الممدوحة.
ومن أقسام
الحبّ ما يتمّ فيه المشاركة ، كحبّ الصبي للصبي ، والتاجر للتاجر ،
باعتبار المشاركة في الوصف الظاهري من الصباوة والتجارة وما شابه ذلك ،
وكلّما كان السبب أقوى كان الحبّ أشدّ وأقوى ، حتّى يصل إلى درجة العشق ،
كما ذكرنا ذلك تكراراً لزيادة التقرير.
وللإنسان غرائز
عديدة ، من أهمّها ( غريزة الحبّ ) ، وكلّ موجود في حركته الجوهرية ـ كما
عند صدر المتألهين ـ فيه قوّة الحبّ ، وإنّه عاشق لكماله المودوع في جبلته
ووجوده ، فكلّ شيء يَسبحُ ويُسَبِّح بحمد ربّه ، ويتحرّك نحو كماله بدرك
جمال المحبوب والمعشوق ، وكمال المحبوب والمعشوق هو الله سبحانه.
ثمّ يتولّد من الحبّ الشوق ، ومن الشوق الوصال ، ومنه الاُنس ، ثمّ الفناء في المحبوب والمعشوق ، وهو كمال الحبّ والعشق.
وقيل : الغريزة
الجنسية بين الزوجين هي العشق الحيواني ، وهي الشهوة الجنسية التي في
الحيوانات أيضاً ، ولكن في منطق القرآن الكريم إنّما العشق بين الزوجين
عبارة عن المودّة والرحمة الإلهيّة :
( وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ).
وهو العشق الإنساني.
وأساس العشق هو
حبّ الكمال ، وكلّ ممكن فيه الوجود ، فباعتبار وجوده ، يكون محبّاً
وعاشقاً ليصل إلى كماله . وهو إمّا أن يكون طبيعياً ، كعشق الحجر الساقط
ليصل إلى مكانه الطبيعي ، أو اختيارياً كعشق الإنسان لغيره.
مراتب الحبّ :
ثمّ للحبّ مراتب :
أوّلها : الهوى ، وهو الميل الباطني نحو المحبوب.
ثانيها : العلاقة ، وهو الحبّ الملازم للقلب ولا ينفكّ عنه.
ثالثها : الكلَف ، وهو شدّة الحبّ.
رابعها : العشق ، ما يزيد على الحبّ.
خامسها : الشعف ( بعين مهملة ) ، وهو إحراق القلب بزيادة الحبّ.
سادسها : الشغف ( بغين معجمة ) ، يصل الحبّ إلى غلاف القلب.
سابعها : الجوى ، وهو الحبّ الباطني.
ثامنها : التيم ، يطلب المعشوق الحقيقي : « واجعل قلبي بحبّك متيّماً ».
تاسعها : التَبْل ( بفتح التاء وسكون الباء ) ، من شدّة الحبّ يتغلّب عليه الوجع والمرض.
عاشرها : التدلية ( بفتح التاء وسكون الدال ) ، ينتهي إلى زوال العقل.
الحادي عشر : الهيوم ( بضمّ الهاء والياء ) ، وهو الفناء في المعشوق ، فلايرى إلاّ المعشوق ، كهيام قيس في حبّ ليلى.
جدال العقل والعشق
كان في قديم
الزمان ، في الأدب العالمي ، لا سيّما في الأدب الفارسي والثقافة الفارسية
، وكذلك الأدب الأوربي ، حكاية الجدال العنيف بين العقل والعشق ، ولمّا
كان مركز العشق هو القلب ، فالجدال يرجع في الواقع بين العقل والقلب ،
والإنسان وإن كان ظاهره يتألّم بلسعة البقّة ، وتقتله الشهقة ، إلاّ أ نّه
في باطنه ووجوده يحيط بالعالم الميتافيزيقي وما وراءه من الروح الإلهيّة ،
وإنّ فيه انطواء العالم الأكبر :
أتزعم أ نّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ).
وإنّه ورد في
الحديث القدسي عن الله سبحانه أنّ سمائي وأرضي لا تسعني ويسعني قلب عبدي
المؤمن ، فيكون قلبه حينئذ عرش الرحمن وحرم الله جلّ جلاله.
والعقل لغةً :
من عقال البعير لضبط ركبتيه عند بركه ، وليكون تحت تصرّف صاحبه ، وللعقل
معنى اسمي وآخر مصدري . والثاني بمعنى الإدراك للأشياء ، والأوّل حقيقة
يميّز بها الخير من الشرّ ، والحقّ من الباطل.
والعقل
اصطلاحاً : بمعنى ضبط الأهواء ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل .
ويأتي العقل بمعنى الفهم أيضاً ، كما له تعاريف اُخرى في علوم شتّى ، فهو
جوهر مجرّد ذاتاً وفعلا ، أو وجود منبسط ، فإذا كان العقل كانت الأشياء ،
أو القوّة الدرّاكة للكلّيات ، أو القوّة الدرّاكة للخير والشرّ ، أو ملكة
تدعو إلى الخير ، أو الملكة لتنظيم اُمور المعاش ، أو القوّة المدركة
المطلقة التي تنقسم إلى العقل النظري والعقل العملي ، والأوّل ينقسم إلى
العقل الهيولائي وبالملكة وبالعقل وبالمستفاد ، والثاني إلى التخلية
والتحلية والتجلية والفناء . أو العقل هو الروح القدسي الموجود بالفعل ،
وهو العقل الفعّال الذي يخرج ما بالقوّة إلى ما بالفعل ، وهو العقل العاشر
عند الفلاسفة المشّائين.
قال الإمام الصادق في تعريف العقل :
« هو ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان ».
وهذا من
التعريف باللازم ، وأوّل ما خلق الله في عوالم الشرف هو العقل ، وذلك من
نور مخزون مكنون ، في سابق علمه ، الذي لم يطلع عليه ، لا نبيّ مرسل ، ولا
ملك مقرّب.
وأمّا القلب
فهو معروف عند الجميع ، وهو مركز الإدراكات والأحاسيس والعواطف ، وإنّه
وراء القلب الصنوبري الذي في القفص الصدري لتصفية الدم ، وما جاء في
الآيات والروايات من ذكر القلب والقلوب وأوصافها وأقسامها إلى ممدوح
ومذموم ، إنّما هو المعنى الروحاني والمعنوي للقلب ، وكذلك الصدر والفؤاد
، وعند العامّة يطلق القلب على النفس أيضاً عندما يقال : قلبي يشتهي هذا ،
أي نفسه تشتهيه.
ويرجع تاريخ الجدال الموهوم بين العقل والعشق إلى القدماء من الفلاسفة ، فإنّ أفلاطون تلميذ سقراط يقول بالمثل
وبالإشراق ، وتلميذه أرسطوطاليس يذهب إلى البرهان العقلي ويفنّد المثل ،
وقد اشتهرت فلسفته بالمشائية ، فالنزاع بين الإشراقيين والمشّائيين ، ومن
ثمّ بين أصالة الوجود وأصالة الماهيّة ، وبين العرفاء القائلين بالشهود
والذوق وصيقلة القلب حتّى يكون كالمرآة ، ومن ثمّ تطبع فيها حقائق الأشياء
إشراقاً ، وبين الفلاسفة القائلين بالأدلّة العقليّة والصغرى والكبرى
والنتيجة ، وبالحجّة والبرهان العقلي ، ثمّ موضوع الفلسفة هو : ( الموجود
بما هو موجود أو الموجود المطلق ) وموضوع العرفان ( وجود الحقّ سبحانه بين
الارتباطين ).
والواقع لا
اختلاف بين الموضوعين في المآل والنتيجة ، وهذا ما نعتقده ونقول به ، فإنّ
العقل نور من الله جلّ جلاله ، وبه يعبد ويكتسب جنانه ، كما أنّ القرآن
نور ، وكلام الأئمة الأطهار نور ، والرسول الأعظم نور وسراج منير ، وخلق
الله آدم فتجلّى فيه مصباح ، وخلقت الملائكة من النور ، والله سبحانه نور
السماوات والأرض ، ومن نوره خلق النور.
والعشق نور
ونار ، فنورانية العشق مع نورانية العقل من باب ( نورٌ على نور ) يهدي
الله لنوره من يشاء ، فمن أصابه من ذلك النور كان من المهتدين.
ولا يكلّف الله
نفساً إلاّ وسعها ، فكان من وسع الإنسان أن يحمل النورين : نور العقل ونور
القلب ، ومن الأوّل الفكر ، ومن الثاني العشق والذكر ، و ( حملها الإنسان
) إنّه حمل تلك الأمانة الإلهيّة ، إلاّ أنّ أكثر الناس غير شاكرين ،
فقصّروا في حملها ، وكان الإنسان ظلوماً جهولا.
وفي الدعاء :
« اللهمّ اجعل
في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي لساني نوراً ، وعن
يميني نوراً ، وعن يساري نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ،
وأمامي نوراً ، وخلفي نوراً ، واجعلني نوراً ، وأعظم لي نوراً ».
وحينئذ يكون
الإنسان نورانياً بنور الله سبحانه ، فإنّه قد طلب في دعائه هذا النور من
النور المطلق ومطلق النور ، وبهذا النور يكون عاقلا وعاشقاً ، فلا جدال
حينئذ بين عقله وقلبه ، بل كلّ إلى ذاك الجمال والنور المطلق يسير ويُشير.
فالعقل والعشق بمنزلة الجناحين لمن أراد أن يحلّق في سماء الفضائل ، ويصل إلى الجمال المطلق ومطلق الجمال.
فمعرفة الحقّ بالاستدلال والبرهان ، كما أ نّه بالذوق والإلهام والكشف والشهود.
والطرق إلى
الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق ، إلاّ أنّ الصراط المستقيم إنّما هو صراط
واحد ، فمن التكثّر إلى الوحدة ، ومن الجلال إلى الجمال ، ومن الخلق إلى
الحقّ جلّ جلاله.
ونعتقد بحقيقة
هذا العالم التكويني والذي نعيش فيه ، كما نعتقد بما وراء هذا العالم
وكلاهما عندنا من الحقيقة ، وليس كما عند أفلاطون من القول بالمثل بأنّ
هذا العالم ظاهر لعالم آخر واقعي وكلّي قائم بنفسه ، بل كلا العالَمين من
الواقع ، والعقل يدرك ما في هذا العالم ، كما أنّ القلب يدرك ما في ذلك
العالم ، وكلاهما من جنود الله سبحانه ، ومن العوامل الموصلة إليه عزّ
وجلّ.
إلاّ أ نّه جلّ
جلاله لا يكتنفه العقول ، ولكن يسعه قلب عبده المؤمن ، وبهذا ربما يتوهّم
من لم يقف على الحقيقة ، أنّ بينهما جدال وصراع ، وأحدهما ينفي الآخر ،
ويُسفّه طريقه ، فترى النزاع قائماً بين الفلاسفة والعرفاء ، وكلّ يدّعي
الوصل بليلى ، والحال في الواقع كلّ إلى ذاك الجمال يشير.
نعم العشق يدلّ
على الحياة الطيّبة أكثر ممّا يدلّ عليه العقل ، ويعطي للحياة جمالا
خاصّاً ، وروحانيّة فائقة ، فإنّ القلب أوسع ظرفاً من العقل ، كما أنّ
حكومة العشق أوسع دائرة من حكم العقل.
ولا يخفى أنّ
علماء النفس لا سيّما المعاصرين منهم يبحثون أيضاً عن العشق ، إلاّ أ نّ
محور دراساتهم حول العشق بين الرجل والمرأة ، أي العشق الجنسي ، فالكلّ
حينئذ يحمل جوهرية العشق ، إلاّ أ نّه ربما يخطئ في المصاديق كما هو عند
أكثر الناس ، فيعشق ما لا يستحقّ العشق ، والعقل هنا يظهر دوره وحكومته ،
فإنّه يدلّ على العشق الحقيقي وكيفية ذلك . فمن الناس من يعشق والده أو
اُمّه ، أو يعشق الفلسفة أو الفنّ ، أو يكون عاشقاً لله سبحانه.
وفرويد العالم
النفسي الغربي يذهب إلى أنّ العشق هو عبارة عن الغريزة الجنسية ، ولكن هذا
إنّما هو مظهر العشق الحيواني ، فيلزمه أن يُحطّ من قيمة الإنسان ،
ويُنزّله إلى حضيض الحيوانية ، بعد أن كان في مقام الإنسانية ، وإنّه
بإمكانه أن يصعد إلى قمّة الكمال والجمال . ويكون في عداد الملائكة ، بل
يتجاوزهم إلى قاب قوسين أو أدنى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والناس كما في
عقولهم وإدراكاتهم العقلائية يتفاوتون ، وليس الكلّ على نمط واحد ، كذلك
في عشقهم ، فإنّهم يختلفون في الشدّة والضعف ، كما يختلفون في متعلّقات
العشق.
ثمّ العشق الحقيقي من أوصافه أنّ له قوّة خلاّقة ، توجب ترقّي الإنسان وتصعيده إلى قمّة السعادة وشموخ الكمال وصباحة الجمال.
ولأفلاطون
الحكيم رسالة في العشق باسم ( مائدة أفلاطون ) يذهب إلى أنّ الحب والعشق
في البداية ليس هو الميل نحو الجمال ، بل الحبّ في الإنسان هو الميل نحو
التوالد والتناسل في محلّ جميل ، وذهب إلى هذه العقيدة من المتأخرين
الكاتب الألماني ( شوپنهاور ) أيضاً ، ثمّ أفلاطون ( على لسان سقراط )
يعتقد أنّ نتيجة المحبّة في التوالد هو حبّ البقاء والخلود ، ثمّ يرى من
قوى عنده الجانب العقلائي فإنّه يفكّر بخلوده من خلال فنونه وعلومه
وإبداعاته الفكرية ، ثمّ يعتقد بالعشق المجازي وأ نّه قنطرة للعشق الحقيقي
عندما يدرك الإنسان الجمال المطلق ، وأ نّه هو الذي يستحقّ العبادة
والتقرّب إليه لا غير.
وقد تعرّضنا من
قبل إلى العشق المجازي ومذمّته في الإسلام، كما ورد عن الإمام الصادق
(عليه السلام) عندما سئل عن العشق ، فقال (عليه السلام) : « قلوب خلت عن
ذكر الله فأذاقها الله حبّ غيره » . فلا نعيد البحث طلباً للاختصار.
عودٌ على بدء :
ثمّ العقل
البشري وإن كان المائز بينه وبين العجماوات ، وبه تشرّف على المخلوقات ،
إلاّ أ نّه غير قادر على درك الله سبحانه : ( لا تدركه الأبصار ولايكتنفه
العقول ، وهو يدرك الأبصار ويكتنف العقول ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ
بما شاء ، وقد أحاط بكلّ شيء علماً ).
وكلّ ما تصوّره
الإنسان في معرفة ربّه فإنّما هو مخلوق له ، وليس بخالقه . والعقل يدرك
الماهيات في مثالها وصورها ، لا في وجودها الحقيقي الخارجي.
والعقل نور وبه
يستضاء في معرفة الأشياء ، فيعلم بها ، والقلب نور يرى به الأشياء ،
فالعقل علم والقلب رؤية ، ومركز الحبّ والعشق هو القلب.
وبالعشق يكون
الشرّ خيراً ، والكريه جميلا ، والمرّ حلواً ، فالعشق موهبة إلهية يعطيها
الله من أحبّه ، وكان أهلا للعشق . وربما لا يمكن تعريف العشق ووصفه ، فهو
أعظم من الكلمات والألفاظ ، فكلّ ما يقال في حدّه ورسمه ، فإنّما هو من
باب شرح الاسم ، لا بيان ماهيّته وذاتياته ، فيتحيّر العقل عن إدراكه
ويعجز القلب عن دركه وفهمه ، فكلّ ما يقال في تعريف العشق إنّما هو بيان
حالاته وأوصافه ، وبيان أحوال العاشق والمعشوق ، وربما يصل العشق بأهله
إلى أن يقال باتّحاد العاشق والمعشوق والعشق.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حَلَلنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا
وقال آخر :
روحه روحي وروحي روحه *** من رأى روحين عاشا في بشر
فما هو العشق ؟ وكيف يفعل بأهله حتّى يصل إلى مقام الفناء ؟ ! ويتجاوز الاثنينية والتكثّر إلى الوحدة والتوحّد.
ومرّ علينا أنّ
لفظ العشق لم يستعمل في القرآن الكريم ، إلاّ أنّ هناك ألفاظ تدلّ على
معنى العشق ومراتبه ، كالحبّ والودّ والتبتّل ، وفي اللغة العربية كلمات
ترادف العشق في المفهوم والمعنى ، كالغرام والصبابة والوله والودّ والمقه
والخلّة والكلف واللوعة والشغف والجوى واللعج والتدلية والهيم والتبتّل ،
ومنها ما هي بمنزلة المراحل والمراتب ، كما مرّ.
وللحبّ علامات ودلالات ، حتّى لا يختلط الحقّ بالباطل.
لا تُخدعنّ فللمحبّ دلائل *** ولديه من تُحف الحبيب وسائلُ
منها تنعّمه بمرّ بلائه *** وسروره في كلّ ما هو فاعلُ
فالمنع منه عطيّةٌ مبذولةٌ *** والفقرُ إكرامٌ ولطفٌ عاجلُ
ومن الدلائل أن يرى من عزمه *** طوعُ الحبيبِ وإن ألحّ العاذلُ
ومن الدلائل أن يُرى متبسّماً *** والقلب فيه من الحبيب بلابلُ
ومن الدلائل أن تراه مشعراً *** في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه *** جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه باكياً *** أن قد رآه على قبيح فاعل
ومن الدلائل أن تراه راضياً *** بمليكه في كلّ حكم نازل
ومن الدلائل زهده فيما ترى *** من دار زلّ والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه مسلّماً *** كلّ الاُمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً *** نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل
وكمال الإنسان
بالعشق ، والعشق الحقيقي هو عشق الله سبحانه ، وهذا ما يسمّى بعشق العرفاء
والعشق العرفاني ، وهو الذي ينتهي بالعاشق إلى رؤية جمال المعشوق ، فلا
يرى شيئاً إلاّ ويرى الله قبله ومعه وبعده ، فليس في الدير ديّار إلاّ هو
جلّ جلاله ، وهذا العشق الإلهي يرى في كلّ الموجودات ، فهو في حركتها
الجوهرية عاشقة لله سبحانه.
وفي الصحيفة السجّادية :
« ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترعهم على مشيته اختراعاً ، ثمّ سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم سبيل محبّته ».
والعاشق ذاكر
لمعشوقه ، فلا يغفل عنه ، والذاكر له درجات : أوّلها الميل الباطني نحو
الذكر ، فيذكر بلسانه دون قلبه ، ثمّ يشتدّ الميل فيصل إلى مقام الإرادة
القلبية فيذكر بلسانه وقلبه بتكلّف حضور القلب ، ثمّ يشتدّ الحبّ فيستولي
الذكر على قلبه ، وهو مقام ذكر المحبّ ، ثمّ في نهاية الذكر يصل إلى مقام
العشق فيستولي المعشوق على القلب ، فيهيم بحبّه ويتبتّل بذكره.
كما نشاهد هذه
الحالات في عشّاق الله جلّ جلاله ، وعاشقي الحسين(عليه السلام) ، وما
إقامة الشعائر الحسينية بكلّ مظاهرها ، من البكاء واللطم وسفك الدم ومشي
ألف كيلومتر على الأقدام في الصحاري والبراري ، إلاّ آيات الحبّ والعشق
الحسيني الذي هو من عشق الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أنّ ما يفعله العاشق ، لا يدركه العاقل.
بقلم "همس الروح"
خاص منتدى "ناجح زووووووووووم"